فى كل عام نعيش لحظات من الروحانيات والتجلى، والمسلمون من كل بقاع الأرض يتجهون إلى أداء مشاعر ومناسك الحج، ولكن هذا العام يختلف اختلافًا كبيرًا عن كل السنوات السابقة.
فهناك حالة من التجويع والإبادة الإنسانية للمسلميين والمسيحيين فى غزة وفى الضفة، وحالة من الانقسام والتردى والضعف العربى والإسلامى أمام اليمين الإسرائيلى المتطرف والصهيونية العالمية التى تتألم كثيرًا من مشهد المسلمين أمام الكعبة، وفى مسجد الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، فى المدينة المنورة.
وأجد ذاكرتى تعود بى لأخطر أبيات كتبها أحمد شوقى فى قصيدته (إلى عرفات الله) التى يكشف فيها تقصيرنا أمام الله سبحانه وتعالى:
ويَا رَبّ هَلْ تُغْنِى عَنِ الْعَبْدِ حِجَّةٌ
وفِى العُمْرِ مَا فِيهِ مِنَ الهَفَواتِ
إِذا زُرتَ يا مَولاى قَبرَ مُحَمَّدٍ
وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظَمِ العَطِراتِ
وَفاضَت مَعَ الدَمعِ العُيونُ مَهابَةً
لِأَحمَدَ بَينَ السِّترِ وَالحُجُراتِ
فَقُل لِرَسولِ اللَّهِ يا خَيرَ مُرسَلٍ
أَبُثُّكَ ما تَدرى مِنَ الحَسَراتِ
شُعوبُكَ فى شَرقِ البِلادِ وَغَربِها
كَأَصحابِ كَهفٍ فى عَميقِ سُباتِ
وكأنه يستشعر ما يجرى فى غزة وفى السودان وفى ليبيا وفى اليمن وفى سوريا الحبيبة، مما يجرى لنا على أيدى إسرائيل وأمريكا ونحن صامتون تابعون مهرولون، من خلال اتفاقية التطبيع الإبراهيمى وهم لا يدركون معنى ورسالة سيدنا إبراهيم التى فجرت الماء والزرع فى صحراء جرداء، ليأكل ويشرب منها البشر، بينما هم يتبعون سياسة منع الماء والدواء عن أهلنا فى غزة.. فأى هوان وأى ضمير يتحمل مشهد الشهداء الذين يتساقطون يوميًّا بالمئات من الأطفال والنساء، والذى يُبثّ على الهواء مباشرة فى كل دول العالم؟!
فالحج نوع من التوحد والقوة والتجمع لملايين البشر الذين يلتقون فى مكان واحد وحول كلمة واحدة وإرادة روحية واحدة وهم يرمون الجمرات على إبليس اللعين، وما أحوجنا الآن أن نرمى الجمرات فى وجه الأمريكان، شياطين العصر الجديد، وترامب ونتنياهو الذين يتلاعبون بالعرب والمسلمين كيفما شاءوا، ونحن تابعون، تحت مسميات الشرق الأوسط الجديد، والغرض فى النهاية هو الاستيلاء على كل ثروات وخيرات الشعوب وتقسيم المقسم فى الدول العربية، ولكننا ما زلنا نعيش على الأمل وعلى آخر ضوء فى النفق المظلم أن يحدث نوع من التحول والتغيير والتوحد فى اتخاذ القرار العربى والإسلامى ليكون حائط الصد الأول ضد هذا الطوفان الشيطانى، الاحتلال الإسرائيلى، الذى يتباهى أمام العالم بأنه ينتهج أسلوب النازية مع أبناء غزة فى القتل والتجويع ويدمر البنية البشرية والتحتية أمام صمت المسلمين والعالم، فلا يملك المسلمون الآن إلا التضرع إلى الله- فهو الخلاص الحقيقى- بالدعاء على إسرائيل التى تقتل البشر فى غزة ولبنان واليمن وكل مكان.
وأقولها من أعلى مئذنة فى قاهرة المعز: ارجع إلينا يا عمر بن الخطاب، فمصر الكنانة، كل الدنيا وليس أم الدنيا فقط، تُحاصر من خلال بعض أشقائها، تنفيذًا للمخطط الصهيونى، فى هذه الأيام المباركة التى يتجرد فيها الإنسان من متاع الدنيا، ويلبس ما يستر عورته متضرعًا إلى الله أن يغفر ذنوبه، ولكن بعض الحكومات العربية والأنظمة تحاول أن تقفز على دور مصر التاريخى والحضارى وأن تتجاهل ذكرها فى القرآن الكريم، ومهما كانت العثرات الاقتصادية فمصر بلد النيل والأهرامات والحضارات والعلماء والأزهر الشريف والكنيسة الوطنية وفيها خير أجناد الأرض، وهذه ليست روايتى، ولكن هذا كلام الرسول، عليه الصلاة والسلام، فرجال الجيش المصرى وشرطتها سيظلون حجر عثرة أمام هذا المخطط الصهيونى.
ونحن فى العشر الأوائل من ذى الحجة، بدأت أهلة ومظاهر الانتخابات والمال السياسى الفاسد مجهول المصدر فى الخروج من جحورها، وظهرت مواكب المنافقين والمدعين الجدد والمرتزقة ليهلوا علينا فى هذه الأيام الروحية تحت مسميات انتخابات الشيوخ ومجلس النواب، بينما الإنسان المصرى العظيم يكابد ويعانى من هؤلاء الذين يبيعون ضمائرهم ومصالح الناس أمام كراتين الفساد وأموال المحتكرين التى جاءت من مصدر مجهول، سواء من غسل الأموال أو الآثار أو الحديد أو الأسمدة المضروبة والذين أُثروا ثراء فاحشًا، فظهرت نماذج ليس لها سيرة ذاتية على مستوى كل محافظات مصر واختفى الشرفاء الحقيقيون والعلماء وأساتذة الجامعات والشخصيات المستقلة أمام هذا الطوفان الجديد.
فإذا كان ما يجرى فى غزة من تجويع ومنع للأكل والشرب والدواء، فما يجرى فى مصر الآن هو تجويع سياسى فى اختيار كل الفاسدين والمحتكرين ليكونوا نوابًا فى أحد أقدم برلمانات العالم، والذى أنشئ سنة 1866، رغم أننا كنا كنواب مستقلين نحاسب ونحاكم الحكومة تحت قبة البرلمان ونعبر عن آهات المواطن المصرى فى دوائرنا وعلى مستوى الأمة المصرية بإخلاص وضمير ووعى ووطنية.
فقضاء حوائج الناس وسماع نبض الجماهير والدفاع عن الوطن أمام هذا الحصار على الحدود مع غزة والسودان وليبيا تحتاج إلى نماذج وطنية تدافع عن المواطن المصرى والمواطن فى غزة والسودان وليبيا واليمن والعالم العربى.
هذا ليس إسقاطًا سياسيًّا ولكنه إسقاط إنسانى وشعبى ونقل ما يجيش فى داخل المصريين من ألم وحزن على هذا المشهد الانتخابى الذى بدأت بشائره التى لا تبشر بأى خير فى المستقبل القريب أو البعيد سياسيًا أو برلمانيًا أو وطنيًا.
كل هذه الآهات وكل هذه الأفكار وكل هذه المعطيات شغلتنى ونحن نعيش فى العشر الأوائل من ذى الحجة وعلى أبواب وقفة عرفات، ولا نملك إلا أن نتضرع إلى الله أن يحمى شعب مصر العظيم وجيشها وأن تنزاح الغمة على غزة وأن تتوقف الحرب والمشاهد المأساوية التى لم يسجل مثلها فى التاريخ، فغزة والضفة الغربية باقيتان بأهلهما، والقدس، وإن طال الزمن، لن يتم تهويدها وستعود إلى أحضان المسلمين.
فالمسجد الأقصى هو أولى القبلتين وثالث الحرمين وستظل مصر بقيادتها وجيشها ووعى شعبها الأبى العظيم هى النموذج الصلب الذى لا يمكن تفتيته أو تقسيمه أو الاقتراب منه أو محاولة بث الفتنة والشائعات والوقيعة بين المسلمين والمسيحيين أو المسلميين والمسلمين، وستظل مصر فى رباط إلى يوم الدين فادخلوها بسلام آمنين.